المادة    
ترد علينا مسألة إنزال القرآن، ونحن نعلم ما يعلمه جميع الْمُسْلِمِينَ من السلف الصالح، ومن بعدهم أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فوق العرش كما أخبر أنه فوق المخلوقات، وأن جبريل عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يسمع القُرْآن من الله -عَزَّ وَجَلَّ- ثُمَّ ينزل به إِلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأرض، أينما كَانَ رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكننا نجد اشتراكاً في الأصول البدعية، وهو إنكار علو الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولديهم أصل آخر وهو: إنكار أن يكون القُرْآن كلام الله عَزَّ وَجَلَّ.
فحصل هنا التقاء بين هذين الأصلين وهو قولهم: إن القُرْآن مخلوق لله، أو كما يقولون: إنه عبارة أو حكاية خلقها جبريل أو مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأشكلت عليهم الآيات التي فيها (أنزل، نزل) كقوله تعالى: ((نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ))[الشعراء:193] وما أشبهها من الآيات التي تدل عَلَى أن القُرْآن من الله عَزَّ وَجَلَّ، وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في العلو فوق العالم فيورد المُصنِّفُ مسألة إنكارهم لعلو الله.
فهم يتصورون بذهنهم المحدود أنه لا يوجد شيء إلا وبجواره شيء آخر، والصحيح أن المخلوقات هي التي يتصور فيها هذه الجهات، وهذه المجاورة، والله عَزَّ وَجَلَّ أكبر وأعظم من كل شيء كما قال تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ))[الأنعام:103] ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً))[طـه:110] لكنهم غفلوا عن هذا فظنوا أنه لا بد من وضع جهة معينة، بمعنى: أنه تحده أو تحوطه الجهات.
فقالوا: ننفي جميع الجهات وهذا مذهب الفلاسفة عموماً وتبعهم في ذلك المعتزلة والأشعرية، والمذهب الآخر أصحاب "الأين" أو "الأينية" وهو: أنه في كل مكان، وهذا الذي ذهب إليه الصوفية ومن اتبعهم الذين يؤمنون بالعقل كما يسمونه ويحكمون العقل المجرد، وإنما نفوا جميع الصفات؛ لأن العقل عندهم لا يقرها، والذين يؤمنون بالكشف والذوق والعلم الباطن أو ما أشبهه، قالوا: هو في كل مكان نعوذ بالله من الضلال

أما ما يدل عليه القُرْآن والسنة؛ بل الفطرة السليمة والعقول القويمة فإنها تدل عَلَى علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وليس هذا موضع التفصيل فيه؛ لكن الموضع موضع عرض الشبهة التي وقعت عندهم. قالوا: إن إنزال القُرْآن لا يعني علو الله عَزَّ وَجَلَّ، ولا يعني أنه غير مخلوق، إنما هو كإنزال الحديد في قوله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا الْحَدِيد))[الحديد:25] وإنزال الأنعام في قوله تعالى: ((وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)) [الزمر:6]، وقالوا وإنزال المطر والأنعام والحديد لا يستلزم جهة العلو.
وهنا بدأ الشارح -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يفصل في الرد عليهم فنبه عَلَى أن هناك فرقاً واضحاً بين الإنزال هنا والإنزال من عند الله، كما في الآيات التي مرت معنا ((تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))، ((تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ))، ((قُلْ نزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)) [النحل:102] ((قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّه)) [القصص:49] فإنزال القُرْآن يأتي بعده (من) الجارة ويأتي بعدها ما يدل عَلَى أنه من عند الله: إما بلفظ الجلالة أو صفة من صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فالقرآن لم يأتِ فيه مجرد الإنزال المطلق، إنما هو إنزال مقيد بأنه من عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى
وأما إنزال المطر فإنه جَاءَ في القُرْآن مقيداً بحرف الجر "في" في ثلاثة مواضع في قوله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً))[الفرقان:48] وقوله: ((أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ))[الواقعة:69] وقوله: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً))[النبأ:14] وهذه الآيات لو تأملناها لوجدنا
أن العلو فيها واضح والسماء تطلق ويراد بها معنيان:
الأول: بمعنى الجرم المعروف لقوله تعالى: ((وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ)) [البروج:1] فذات البروج هي السماء التي هي الجرم أو الجسم الذي له أبواب وفيه الملائكة وصفاته الأخرى المعروفة.
الثاني: تطلق بمعنى العلو علي أي شيء عالٍ نقول: هذه المروحة في السماء أي فوق، ونقول: السحاب في السماء أي أنه فوقنا في العلو فقط وليس المقصود أنه في نفس جسم السماء، والقمر في السماء كما قال الله تعالى: ((تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً))[الفرقان:61] فالسراج الذي هو الشمس والقمر في السماء أي في العلو -في جهة العلو- ولا يعني ذلك أنه ملتصق بنفس جرم السماء وإنما هو في جهة العلو. وعلى هذا فالمعنى الأول ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً)) في الآية الأولى واضح فالمطر نزل من العلو إِلَى الأسفل وفي هذا إثبات للعلو.
والعلو أيضاً وارد كما أن القُرْآن أنزله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو عال عَلَى مخلوقاته، ونزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالمعنيان ليس فيهما تناقض بل هما متفقان، وكذلك ما ورد من الإنزال من المزن أو من المعصرات -السحب- فالمطر ينزل منها من العلو إِلَى الأسفل وهذا أيضاً يتفق مع نزول الوحي من جبريل عَلَيْهِ السَّلام إِلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل هذه المعاني لا إشكال فيها بل هي متفقة عَلَى أن النزول يكون من أعلى إِلَى أسفل.
أما إنزال الحديد والأنعام فقد جَاءَ في القُرْآن مطلقاً ولم يرد مقيداً، هذا هو الفرق الأول، ثُمَّ لو تأملناه لوجدنا فيه مناسبة أيضاً وذلك في كونه من العلو إِلَى الأسفل كما ذكر المُصنِّفُ أن الحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال وكلما ارتفع المعدن أو المنجم كلما كَانَ الحديد أجود، فهذا يحتمل أيضاً أن الحديد ينزل من الجبال ثُمَّ يستخدم.
وأما الأنعام فإن الإنزال يفصل عَلَى معنيين:
الأول: إنزال النطفة من الذكر إِلَى رحم الأثنى.
الثاني: عند ولادة المولود، فينزل من الأعلى إِلَى الأسفل، وهذا المعنى وارد في الأنعام، حتى في الحديد، والذي يبدوا أن الراجح في نظري -والله تَعَالَى أعلم- أن الإنزال: إنزال جميع النعم أي أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يمتن علينا بإنزال جميع النعم التي ينعم بها علينا فعامة الرزق منزل من عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً))[يونس:59] وأمثال ذلك ((وَيُنزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً))[غافر:13] الرزق عموماً، سواء المطر أو الأنعام أو الحديد، وغير ذلك.
فالفضل كله من عند الله عَزَّ وَجَلَّ، وخزائن ذلك عنده تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)) [الحجر:21] وينزل ذلك متى يشاء، وأين يشاء -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فعلى هذا فالحديد مما أنزل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من خزائنه، وكذلك الذهب والفضة وسائر أنواع الخيرات من الزروع والحرث والأنعام، أما كيفية الإنزال فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أعلم بها، فهو ينزلها كما يشاء ومنها ما نعرفه بأسباب المشاهدة، كما نرى نزول المطر من السحاب، ومنها ما لا نعرفه، لكننا نستيقن ونعلم أنه جل شأنه هو الذي ينزل هذه الخيرات،
((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)) وإن أفرد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أو خص شيئاً ما بالإنزال فهذا فيه زيادة فضل، وتأكيد لهذا الشيء، لأن الحديد أساس من أساسيات حياة الإِنسَان في القديم والحديث.
ولو تأملنا لوجدنا أن الحديد من أساس ما يعتمد عليه الإِنسَان في حياته للحرث في الزراعة، وأما في العصر الصناعي فظاهر جداً لدى الجميع، وفي جميع العصور لا يستغني عن الحديد فميزته مهمة، ولا سيما أثناء القتال في الجهاد الذي نزلت الآية في شأنه ((فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس))[الحديد: 25] فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنزل الكتاب، وأنزل الميزان، وأنزل الحديد- أي: أنزل الحق الذي يجب أن تعلمه الأفهام والعقول السليمة، وأنزل الحديد ليردع العقول المنحرفة والقلوب المريضة والميتة ليردها إِلَى الحق، والأنعام أيضاً من أعظم نعم الله -عَزَّ وَجَلَّ- فلا غرابة أن تختص بالذكر؛ لأنها من أعظم نعم الله، انظروا إِلَى اللبن وحده بغض النظر عن اللحم وغير ذلك كما يشتق منه أنواع الغذاء من الأجبان والزبدة والأدوية والفيتامينات وأمور لا تحصى، هي من أساسيات الحياة، واختص الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بذكرها لما فيها من الفضل.
ولو قلنا: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنزل الأصل، ثُمَّ تناسل ذلك عَلَى الأرض فإن هذا لا إشكال فيه، كما نرى الآن ونشاهد في الأرض أن الجو يكون صحواً فيأتي السحاب فينزل المطر فنرى الماء، وقد نكون بمكان فلا نجد الماء وبعد حين من الدهر يكتشف وجود الماء، فرزق الله -عَزَّ وَجَلَّ- يأتي بوسائل نعلمها، ووسائل لا نراها ولا نعلمها ومنه هذه المعادن، وهذه الخيرات، والكنوز التي في الأرض، فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- متى ما شاء سلبها منها، وإذا شاء أنزل فيها من الذهب والفضة والخير والكنوز ما لم نستطع أن ندرك كيف أنزله جل شأنه، هذا هو المراد الذي يتضح به أن الإنزال والنزول حقيقي في كل هذه الأمور وأنه لا شبهة لأولئك في نفي علو الله -عَزَّ وَجَلَّ- من جهة ولا في نفي أن القُرْآن كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- منزل غير مخلوق من جهة أخرى.

وأما قول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [وعلى هذا فيحتمل قوله: ((وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ))[الزمر: 6] وجهين:
أحدهما: أن تكون "من" لبيان الجنس.
والثاني: أن تكون "من" لابتداء الغاية].
وقال أيضاً: [وهذان الوجهان يحتملان في قوله: ((وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً)) [النحل:72] هذا كلام في تفسير هذه الآية، وعلى كلا التوجيهين فالمعنى واضح ولا إشكال فيه؛ فإذا كانت "من" لبيان الجنس كما في قوله تعالى: ((وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ))[الزمر:6] فتختلف عن كونها لابتداء الغاية في المعنى؛ لأن "من" لبيان الجنس، أي: جنس المنزَّل وهي الأنعام يكون الكلام كأنه قَالَ: وأنزل لكم الأنعام، لكنه بيَّن بعد ذلك فقَالَ: ((وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ))[الزمر:6] فهذه لبيان الجنس، وإن كَانَ لابتداء الغاية فمعنى ذلك أن الثمانية الأزواج مبتدئة من الأنعام.
فمعاني الحروف من حيث الجملة هي من الأمور الدقيقة، ولكن كلا الوجهين محتملين والمعنى واضح عَلَى كلا الوجهين، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الذي أنزل هذه الأنعام، وهذه الأنعام منها هذه الأزواج الثمانية فهي أيضاً من الأنعام أي: تبتدأ منها، و"من" تأتي لبيان الجنس، وتأتي لابتداء الغاية وتأتي للتبعيض، وتأتي زائدة إِلَى غير ذلك من المعاني المعروفة في اللغة، وفي علم التفسير.
وهذه الآية يجوز فيها الوجهان وعلى كلا الوجهين: معنى العلو هو كما سبق لا ينتقض ولله الحمد وهذا هو الذي يهمنا هنا.